اللحظـات الأخيـــرة

اللحظـات الأخيـــرة

طالعني وجهها المشرق كعادتها رغم الآلام التي تكاد تصرخ من بين ثناياه
والتي لم تفلح جهودها باحتوائها ، طالعني بابتسامة مشجّعة آملة
في بثّ الأمل بقلبي المذعور ، فلم أجد بدّا من مبادلتها الابتسامة وطبع قبلة حانية على جبينهاالوضّاء ..
" الأشعة جاهزة يا آنسة ، تستطيعان الدخول الآن "
بكلماته المقتضبة والروتينيّة قاطع الممرض تواصلنا ، فما كان منّي إلّا أن بادرتها بابتسامة تلك المرّة مرافقة إيّاها لغرفة الأشعة ،
- أتتوقعين خيرا هذه المرّة ؟
- منذ متى ونحن نطرح مثل هذه الأسئلة يا أمّي ؟ بإذن الله لن يكون إلّا الخير .
- لا أعلم ! لكن أشعر بأن هذه المرّة ليست كمثيلاتها ، ربما حان الوقت حبيبتي !
- رجاءا لا تقولي هذا ، لن يكون إلّا الخير بإذن الله تعالى .
انقطع الحديث ببلوغنا الغرفة ، فدخلت هي وظللت أنا بالخارج بانتظار الانتهاء من عمل اللازم ، وبعد حين انتهى الأمر بسلام ، وخرجنا
سويّا لنعد إلى غرفتها التي ألفْتها قبل أن تألفها هي منذ أن تحتّم علينا المكوث بالمشفى قرابة ما يزيد عن الشهر ونصف الشهر .
أرحتها على السرير ، وألقيت بجسدي على الكرسيّ أبحث عن ولو ذرة واحدة من الراحة أُريح بها هذا البدن الذي قارب على الانهيار ،
لم أدرِ بذاتي إلّا وصوتها يناديني بنفس متقطّع يكاد لا يُسمع ،انتفضت جالسة فهالني شحوب واصفرار وجهها ، وعينيها الغائرتين في مشهد
لن أنساه ما حييت ... بت أركض بالمشفى كالمجنونة ..
- رجاء لينقذني أحدكم .. هل من طبيب هنا ؟ .. أمّي أصابها الشحوب فجأة ولا أدري ما بها .. !
- حسنا حسنا .. رجاءا انتظري بجانبها حالما أنادي الطبيب .
عدت بعد حديثي مع الممرضة وجسدى كلّه يرتعد ، عاجزة عن مساعدتها بشيء ، حتى دموعي جفّت في مقلتيها وتوقف عقلى عن مجرد
التفكير فيما قد يُعنيه هذا ، كل ما استطعت فعله هو الدعاء لله علّه يغيثنا مما نحن فيه .
- ليبتعد الجميع .. علينا فحصها ..
امتلأت الغرفة فجأة بالأطباء من كل حدبٍ وصوب ، وبدت أمّي لعيناي من بعيد تتلقفها الأيداي ما بين مُقيسًا للضغط ، ومُقيسًا للنبض ،
وفاحصًا لاستجابة عينيها .
- يبدو أننها نفقدها .. انخفض الضغط تماما .. يكاد التنفس ينقطع .. حسنا ليحضر أحدكم أنبوب التنفس
الاصطناعي حالا .. بسرعة !
اخترقت كلمة أنبوب التنفّس أذناي ، فتذكرت حينها تلك المرأة التي وضعوا لها أنبوبا برئتيها بعد أن ساءت حالتها ، يومها سمعت الممرضة
وهي تتحدث عن أن أيّام تلك المسكينة أصبحت معدودة ، فتلك الأنبوب ما هي
إلّا محاولة لمدّ العمر قليلا ، لكنّها بذات الوقت مؤشّر النهاية .
ومع كلمات الطبيب أصرّوا على اصطحابي خارجا ، وأبلغني طبيب منهم بأنني لن أحتمل رؤيتهم وهم يجرون لها ذلك الأمر ، لم أكن أشعر
بشيء ، أحسست وكأنّي فقدت الإدراك ساعتئذٍ ، وبتّ كمن يتحرك بشكل آلى ، أنتظر أن يخرج أحدهم ليقول لي أيّ شيء ،
أيّ شيء فضلا عن غرقي في أفكاري السوداء .
بدت اللحظات وكأنّها ساعات ، وخرجوا وعلامات الأسف تبدو عليهم .
- لقد ركّبنا لها الأنبوب ، ويجب أن يتم الضغط على البالون كي تستطيع التنفس ، ستهتمّ الممرضة بذلك ، وعليكِ فقط أن تستريحي .
أستريح ؟ عن ماذا يخال هذا الطبيب نفسه يتحدث ؟! كيف أستريح وأمّي يبدو أنني سأفقدها .
- هل باستطاعتي الجلوس بجانبها ؟ أنا بخير لا تقلق لن أُحدِث أيّ جلبة ، أرجوك ..
نظر لي الطبيب نظة تملؤها الشفقة ، وما كان منه إلّا أن وافق بحذر على طلبي محذِّرا إياي بأنني لو انفعلت فسيُخرجني على الفور .
دلفت إلى الغرفة ... طالعني ذات الوجه الجميل ، والإشراقة الوضّاءة ، لكن العينان مغلقتين ، والوعي غائب .. لم أتمالك
نفسي فأجهشت ببكاء مكتوم خشيّة أن أُحرم بأمر الطبيب من قضاء آخر لحظاتها معها .
جلست بجانبها وأنا أتطلع لقسمات وجهها الجميل ، أحاول أن أطبع صورة كل خطٍ فيه بذهني ، ظللت أطرد فكرة أنني ربما لن أراها غدا
بجانبي فمن يدري متى قد يكون ذلك ! أمسكت بيديها أقبّلهما وأتمنى لو كان بالإمكان أن تمسح بهما على رأسي كما اعتادت أن تفعل ،
وددت لو احتضنتني للمرة الأخيرة بين ثنايا صدرها الدافيء ، وددت ، وودت ولكن بقت آمالي عاجزة أمام سور عالي بدأ يعلو أكثر
وأثر بيني وبينها .
تناولت المصحف وشرعت في قراءة سورة الواقعة محاولة أن أتدارك مشاعري وأن أُسمعها ما كانت تحبّه دوما وتقرأه ليل نهار ..
مرّ الوقت سريعًا ما بين قراءتي ، ودخول وخروج الأطباء من حين لآخر ليتابعوا حالتها . وأنا ما زلت ممسكة بيديها بين يدي ،
لكنني بتّ أشعر بأن يديها تبرد تدريجيّا حتى أصبحت أقلّ برودة مما كانت عليه ، ظللت أحاول طرد تلك الفكرة السوداء التي جاءت على
خاطري ، وأكملت قراءتي ، لكن البرودة ازدادت ، وازداد معها إحساسي بغرق قلبي في بحر مخاوفة ، فناديت الطبيب كي يخبرني بما
أخشى سماعه ، وما أودّ لو يهدمه بكلماته .
أمسك بيدها ، وشرع في قياس نبضها .. استغرق وقتًا أطول من المعتاد ، وما لبث أن خرج وعاد بطبيبة تبدو أكبر منه خبرة ، فأمسكت
بيد أمّي تبحث عن نبضٍ بدا وكأنّه قد غادر الأنجاء .. وبدا بدلا منه نظرة رأيتها كثيرا هنا في هذا المكان المفعم برائحة الموت ..
وتحركت شفتاها ببطءٍ وهي تتحاشى النظر إليّ ..
- وقت الوفاة .. السابعة والنصف مساءا .. البقاء الله في فقيدتكِ !
هكذا قالت ، وهكذا انتهى الأمر ، وفي دقائق معدودة خُلعت الأنابيب والمحاليل من جسدها ، وانفضت الغرفة ، ولم يبق سوى جسدها
المسجى على السرير ، وجسد واقف مصدوما لا يعرف ماذا جرى أدركت بعد ذلك أنه كان أنا .
وظفر الموت بروح أخرى خسرتها أنا ، لكنها بقيت عند خالقة آمنة إلى موعدٍ مُسمّى !
تحياتي لكم
شمس المنتدى

الموضوع الأصلي : اللحظـات الأخيـــرة المصدر : منتدى تكنولوجيا العين الذهبية

شمس ; توقيع العضو